حتى لا نكون من الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، لا يسعنا إلا أن نؤمن بوجود الجن كما جاءالقرآن الكريم بذلك. لكن هذا لا يعني وجوب التسليم لكل ما يحكى ويُسمع؛ فكما أن هناك حقائق تحتاج إلى أبحاث أكثر، فثمة أمراض عضوية ونفسية تبدو أعراضها للعامة وكأنها مس من الجن.
يمكن تلخيص الأعراض المربكة في السقوط المفاجيء للشخص وتخبطه بشكل غريب… تغير الصوت..النطق بكلمات غريبة..صراخ مخيف.. التحدث بشكل درامي يوحي بمس جني مغرم أو راغب في الإنتقام .. إلخ من الأعراض التي حفظناها عن ظهر قلب. يزداد الخلط عندما تكشف الفحوصات الطبية عن سلامة الأعضاء، فتكبر فرضية مس الجن. وفي محاولة يائسة للإنقاذ يتم تلمس صارعي الجن لشفاء الحالة.
جلسات الصرع التي عايناها متشابهة إلى حد بعيد، أغلبهن إناث (عازبات)، منزويات برغبتهن وبكل إذعان للصارع. ما أن يتلي هذا الأخير بعض الآيات من القرآن الكريم حتى تبدي المصروعة تجاوبا ببعض الحركات التي تتراوح بين الهز الخفيف للرأس والتشنج القوي، إلا أن الاستجابة المهمة هي محاولة تجنب الضرب المبرح للصارع بواسطة عصاه.. إلى أن تعلن المريضة امتثالها للشفاء!
غير هذا، لا تكون أية أعراض هوليوودية أو فوق طبيعية؛ لا يخرج من فم المصروعة لا قيء أخضر ولا دخان ولا تطير ولا تظهر على جلدها رسائل بالكي… فقط هناك من يقول بأنه قيييييييل له إن امرأة بدوية وأمية تتحدث بالفرنسية بطلاقة أثناء نوبات الصرع…طبعا لن تجد من يقول لك بأنه رأى ذلك بأم عينيه، فقط قيل وقال!
الإشكالية البديهية هنا هي: لماذا يتجاوز الناس ما يروه بأعينهم ليفسروه بمعطيات ميتافيزيقية ؟ ! ما نراه في العادة فعلا، هو إحضار مغفلين لمدّعين ليمارسوا الإعتداء السافر على بناتهن أمام أعينهم. إعتداء بالضرب المبرح يستوجب السجن في بلدان القانون، خصوصا وأن محاضر الشرطة مليئة بحالات ((صرع)) أفضت إلى اعتداءات جنسية وحالات انتهت بمآسي صحية وصلت لحد الوفاة تأثرا بالضرب.
الأمر الأكثر استفزازا هو عندما يصر البعض بكل تصلب بأن من يحس بالألم، ومن يستغيت، ومن يُعتدى عليه ليس المريضة التي يرونها، بل هو الجن! المريضة لا تعي شيئا من هذا في نظرهم حتى وإن بكت أمامهم! وكأنهم يكررون حالة نكتة الساذج الذي حمل زوجته إلى أخصائي ولادة والذي فسر الخيانة التي مورست أمامه بالفحص الذي لا يدركه إلا المتعلمين!
عار على العربي الذي يتبجج بقيمه الرجولية أن يدخل إلى بيته غريبا، يحتاج إلى علاج نفسي، ليمارس الاعتداء السادي على ابنته أو زوجته. من المخجل أن يقبل تلمس ((الصارع)) لأعضائها أمامه، وأن يهمس في أذنيها ويدغدغ وجهها بلحيته… مؤسف حال مثل هؤلاء الذين يدفعون أجرا مقابل هذه الملحمة المشبعة للصارع المريض قبل كل شيء.
لو ورد في كتاب الله وصحيح سنة رسوله ما يزكي صرع الجن على هذا النحو، لوضعنا الأقلام وقلنا هذا أمر الله، سمعنا وأطعنا، لكن حاشى لله. ما أراد الله بهذا من سلطان.
لكن في المقابل، أهذا كله تمثيل وادعاء مستميتين من قبل الفتاة؟! طبعا لا، فهذه الحالة تعرف في علم النفس بالنوبات الهستيرية حيث يتحول الإحباط والصراعات النفسية بشكل لاإرادي ولا واعي إلى أعراض جسدية لتحقيق مكاسب اجتماعية. هناك ما يمكن تسميته بالعقل الباطن أو اللاشعور الذي يمكننا من خلاله عيش حياة أخرى، بحلوها ومرها، وبمعزل عن الحياة الواعية كما يحدث لنا في الأحلام.
أما لماذا أعراض الجن بالضبط؟ فلأن الهستريا مرض كوني، أما أعراضها فمحلية؛ فكلنا، من شاهد ومن سمع فقط، يعرف كيف تكون أعراض مس الجن، لهذا إن كان بيننا هستيري فلن يجهد عقله الباطن في محاكاة أعراض مس الجن والذي يؤدي وظيفة جلب الإنتباه على أحسن وجه! كما أن المريض بالهستريا في ألمانيا سيبتدع عقله اللاواعي أعراضا تتماشى والنسق الفكري لمجتمعه حسب غاياته النفسية الخفية. لهذا فالتعامل مع الحالة وعلاجها يجب أن يكونا نفسيين، وفي المقال التالي سنتعرض للأسباب التي تدفع الإنسان إلى الوقوع ضحية هذا المرض والسمات الأساسية لشخصية المصاب به.
عزيز عبو