كلّابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةحدباء محمولُ
تمضيالجنائز إثر الجنائز .... تحمل الوليد واليافع ، والشيخ والعجوز ، والشيب والشباب، والأغنياء والفقراء ، والعامّة والأمراء ، والملوك والرءساء وكلّ ذي روح ، تحملمن لم يفكّر بالموت لحظة ، ومن كان هاجس الموت لا يبرح تفكيره وذكره .. تحملالصبيّ الصغير ، الذي لم يكد يسمع عن الموت شيئاً .. ومن سقى الناس كئوس الموتوحمامه ، وكأنّه كان يظنّ نفسه بمنجاة عن هوله وحياضه ..
ألمتسمع عن الموت يقتحم القصور المشيدة ، والحصون المنيعة .؟!
وقدنأى أهلها بأنفسهم عن كلّ أسبابه ، وأترعت أنفسهم من موائد الشهوات ، وسكروا حتّىثملوا بكئوس الأهواء والترّهات ..
فهلنفعهم ذلك وأنجاهم .؟ وهل أخّر عنهم كأس الموت وحاباهم .؟! إنّه يأتي بقدر اللهالمعلوم المحتوم .. فلا نجاة لهم منه ولا مفرّ ..
يقولالشاعر الجاهليّ :
رأيتالمنايا خبط عشواء من تصب تمته ومن تخطئيعمّر فيهرمِ .
وإذاكان هذا الشاعر الجاهليّ يرى المنايا خبط عشواء ، فإنّ المؤمن يراها أقداراًإلهيّة حكيمة ، لا يدركها عقل الإنسان القاصر ، وقد كان من رحمة الله بعباده أنأنذرهم أنّ الموت يأتي بغتة ، وأنّ الأجل إذا جاء فلا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون..
واعلم أنّ الناسفي ذكر الموت على ثلاثة أقسام :
1 -إمّا منهمك بالدنيا ، ولا تخطر له الآخرة على بال .
2 -وإمّا تائب مبتدئ ، يجاهد نفسه على التقوى والعمل للآخرة .
3 -وإمّا عارف بالله من أهل التّقوى زهدت نفسه في الدنيا ، وتاقت إلى الآخرة .
فأمّاالمنهمك بالدنيا ، فلا يذكر الموت بحال ، وإن ذكره فإنّه يذكره آسفاً على الدنيا ،حزيناً على فراقها . وهذا على خطر عظيم ، إذ لا يزيده ذكر الموت من الله تعالىإلاّ بعداً .
وأمّاالتائب المبتدئ ، فإنّه يكثر من ذكر الموت ، لينبعث من قلبه الخوف والخشية ، فيفيبتمام التوبة ، وربما يكره الموت خوفاً من أن يختطفه قبل تمام التوبة ، وقبل إصلاحالزاد إلى الآخرة ، وهو معذور بكراهية الموت لهذا السبب .
وعلامتهأن يكون دائم الاستعداد له ، لا يشغله عنه من الدنيا شاغل .
وأمّاالعارف بالله ، فإنه يذكر الموت دائماً ، لأنّه موعد لقاء الله تبارك تعالى ، وهويحبّه ، والمحبّ ينتظر لقاء الحبيب .
وهذاعلى الغالب يستبطئ مجيء الموت ، ويحبّ مجيئه ليتخلّص من سجن الدنيا ، وينتقل إلىجوار ربّه الكريم .
فما الجديربالعاقل .؟ما أجدر الإنسان العاقل،الذي يطوي حياته صحيفةً صحيفةً ، ويقتلع عمره بيده من التقويم السنوي ورقةً ورقةً، ويرى بعينه مراحل العمر تمضي مرحلةً مرحلةً ، وينتقل من طفولة إلى شباب ، ثم إلىكهولة ، فشيخوخة وهرم ، هرمٍ ليس بعده إلاّ الموت ..
أقول : ماأجدر هذا الإنسان إذا كان عاقلاً ، أن يفكّر فيما بعد الموت ، ويستعدّ بالإيمانوالعمل الصالح ، لحياة الخلود في النعيم ، ويعمل للنجاة من الخلود في عذاب الجحيم!!
مقارنة :لوقارنا بين رجلين : أحدهما مؤمن بالله واليوم الآخر مستعد له ، والآخر جاحد بالله ،كافر باليوم الآخر ، لرأينا الفرق بينهما شاسعاً .
فالمؤمنبالله واليوم الآخر كلما ذكر الموت والآخرة ، تحرّك قلبه بالرجاء ، آملاً أن يكونفي الآخرة من السعداء ، ومن أهل النعيم الخالد فيها .. فهو سعيد في نفسه ، مطمئنفي حياته ، مهما قاسى من الشدائد والصعاب ، والآلام والأسقام ، ومهما لاقى فيشيخوخته وهرمه ، من ضعف ووهن ، فهو يودع هذه الحياة راضياً ، هانئ النفس ، فرحاًبلقاء الله ، منتظراً ثواب الله ..
فأيّسعادة أعظم من هذه السعادة ؟!وأمّاالملحد بالله ، الكافر باليوم الآخر ، فإنّه يتقلّب في شدائد الحياة وصعوباتها ،وآلامها وأسقامها كما يتقلب الحيوان الأعجم ، لا يعرف سبباً لوجوده ، ولا يرجوثواباً لعمله ، ويدركه ضعف الشيخوخة ، ووهن الهرم ، فلا يجد لذة في مأكل ولا مشرب، ولا في متعة من متع الحياة ، ثم هو إذا عاين الموت ، فارق هذه الحياة كئيباًحزيناً ، لا يرى أنّه صائر بعد موته إلاّ إلى جيفة كما يصير الحمار .. فأيّ شقاءأشدّ من هذا الشقاء ؟