--------------------------------------------------------------------------------
إذا أردت أن تعصي الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا شبيه ولا مثيل ولا نظير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. معاشر المؤمنين:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفَتَّنًا تَوَّابًا نَسَّاءً، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ ".رواه الطبراني وصححه الألباني . وعَنه رضي الله عنه قال : قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ: الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِق ... ". رواه الطبراني وصححه الألباني .
قد تزل بالمؤمن القدم ، وقد يقع في الخطيئة ويقترف السيئة في خضم مراغمته للنفس والهوى والشيطان ، ولا سبيل أمامه إلا بالتوبة والأوبة والاقلاع عن الذنب ، خاضعاً لأمر ربه ومولاه {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } ، ولقوله تعالى { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} ، ولقوله عز وجل {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} .
ومستجيباً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم :" كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ". رواه الترمذي وصححه الألباني . وملبياً أمره صلى الله عليه وسلم في اجتناب المعاصي عندما قال:" دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
ولابن القيم رحمه الله في طريق الهجرتين وباب السعادتين كلام نفيس في بيان الأسباب التي تعين على اجتناب المعاصي وعدم الوقوع في الذنوب.
أولها : علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلَّق عليها وعيد بالعذاب .
السبب الثاني : الحياء من الله سبحانه فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومسمع ، استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه .
السبب الثالث : مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد ، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب ، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها وإن أصر لم ترجع إليه ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمه حتى تُسلب النعم كلها . قال الله تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، وأعظم النعم الإيمان ، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها ، وقال بعض السلف : أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل سنة، وقال آخر: أذنبت ذنباً فحرمت فهم القرآن ، وفي مثل هذا قيل :
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب عياذاً بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.
السبب الرابع : خوف الله وخشية عقابه وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله صلى الله عليه وسلم وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين ويضعف بضعفهما . قال الله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء}. وقال بعض السلف : كفى بخشية الله علماً والاغترار بالله جهلاً .
السبب الخامس : محبة الله وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه فإن المحب لمن يحب مطيع ، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى ، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها ، وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته ، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده . وفي هذا قال عمر : "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه "، يعني : أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته. فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه ، وعلامةُ صدق المحبة شهودُ هذا الرقيب ودوامه . وههنا لطيفة يجب التنبه لها وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوعَ أُنْسٍ وانبساط وتذكر واشتياق ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها ، ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبةٍ لله ولكن لا تحمله على ترك معاصيه ، وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم، فما عَمَرَ القلبَ شيءٌ كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها {وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} .
السبب السادس : شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع من قدرها وتخفض منزلتها وتحقرها وتسوي بينها وبين السفلة .
السبب السابع : قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ منها من سواد الوجه وظلمة القلب وضيقه وغمه وحزنه وألمه وانحصاره وشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه عن مقاومة عدوه وتعريه من زينته والحيرة في أمره ، وتخلي وليه وناصره عنه وتولي عدوه المبين له ، وتواري العلم الذي كان مستعداً له عنه ، ونسيان ما كان حاصلاً له أو ضعفه ولا بد ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد ، فإن الذنوب تميت القلوب .
ومنها : ذله بعد عزه ، ومنها : أنه يصير أسيراً في يد أعدائه بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه ، ومنها : أنه يضعف تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج ، فلا رعيته تطيعه إذا أمرها ولا ينفذ في غيرهم . ومنها : زوال أمنه وتبدله به مخافة ، فأخوف الناس أشدهم إساءة . ومنها : زوال الأنس والاستبدال به وحشةً وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة . ومنها : زوال الرضى واستبداله بالسخط ، ومنها : زوال الطمأنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبداله بالطرد والبعد منه . ومنها : وقوعه في بئر الحسرات فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً أو إلى غيرها إن قضى وطره منها ، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه ، وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه، فيا لها ناراً قد عُذَّب بها القلب في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة .
ومنها : فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباح الكثيرة فإذا سلب رأس ماله أصبح فقيراً معدماً فإما أن يسعى بتحصيل رأس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير ، وإلا فقد فاته ربحٌ كثير بما أضاعه من رأس ماله. ومنها : نقصان رزقه فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ومنها : ضعف بدنه ، ومنها : زوال المهابة والحلاوة التي لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة . ومنها : حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس ، ومنها : ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه ولا يعود إليه أبداً . ومنها : طمع عدوه فيه وظفره به فإنه إذا رآه منقاداً مستجيباً لما يأمره اشتد طمعه وحدَّث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دون مولاه الحق . ومنها: الطَّبْعُ والرين على قلبه ، فإن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب منها صقل قلبه ، وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه فذلك هو الران ، قال الله تعالى {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .
الموقع الرسمي للشيخ سعد البريك
__________________
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض
--------------------------------------------------------------------------------