آفة التعالي!
لما انتهى المطاف بالحكيمين دمنة وكليلة من بعد وجبة عشاء "عصيب" سأل كليلة دمنة: عن رأيه ومثل من يكون الأخ الذي كثر عليه إخوته وهو لا يحسن العدل فيهم، وقد ولاّه أبوه شأن تدبيرهم بعد أن أعطى الأب لكل ابن منهم عملاً يعمله، فما كان من ذلك الأخ إلا أن قام مستعلياً فيهم ليريهم أنه منهم بمكانة أبيه، فمتى وجد من أحدهم أنفة عن تقبل استعلائه تحول عنه للذي لا يحسن إلا الطاعة لصدق في البر أو لضعف في الذات!
فقال دمنة يابن أخي: لا تسأل عن أولئك مثل من؟! فإنما هم بحالهم مثل وعبرة للمعتبرين! ولكني محدثك ولابد عن مآل هذا الأخ الذي ولي مالا يستحق، وإنك لو تتبعته لوجدته مكلفاً للمطيع مالا يُطيق تاركاً للعصي فرصة الأخذ من صنوف الراحة بقدر عصيانه، وإن له مع ذلك سبلاً لا تجدها إلا في غايات المخادعة والتذاكي والاستغفال، حتى يخدع في كل مرة واحداً منهم فإذا انخدع له اليوم واحدٌ منهم لم ينخدع له بعدها لا هو ولا المعتبرين به! وإن مآلهم بعد حين إلى معصيته أقرب منه إلى طاعته؛ حتى يستبقي كل واحد من أمره بحد ما أمره أبوه، تاركاً بسوء فعلة أخيه ماقد يلزمه مما تستجد به حوادث الأيام، مع تعاظم النفرة بين هذا الأخ وبطانته من إخوته وبين بقية الذين لا يخدعون ولا يحبون أن يُخدعوا!!
ولك أن تعرف يابن أخي أي شرٍ فيه هؤلاء الإخوة بعد أن كان واجبهم التكاتف وأن يكونوا يداً واحدة تبني لا أيدٍ مختلفة يهدم بعضهم بنيان بعض! قيام حياتهم على المكر والخداع، ومودتهم يغذيها سوء الظن لا حُسنه، ورباطهم على المشاحة لا على العفو! وهذا عين النكد وفساد الإنتاج! ومثل حياتهم إن شئت مثلاً كمثل المملوك فيه شركاء متشاكسون هل يستوي هو ورجل سلماً لرجل؟!
فقال كليلة قد جئت والله بها على الجرح، وإني لا أراهم إلا على ما وصفت، فما السبيل إلى إصلاحهم؟
فقال دمنة: لا سبيل يابن أخي إلا أن يرشُدَ أخوهم ويقدم حض الجماعة على حض نفسه وأن يأخذ الأمر بينهم بالصدق والعدل وتحقيق ما ينفعهم جميعاً؛ إذ حالهم من حال بعض؛ فإن أبى إلا أن يبقى على حاله لزم الأمر أن يأخذ أبوه على يده وأن يُعيده إلى حيث يعمل إخوته ويضع من إخوته من هو أصلح منه، فإن لم يفعل أبوهم ذلك فما أراهم في يوم إلا والذي بعده عليهم شر منه حتى يذهب كل أخ في سبيل ويكونوا من بعد إلفهم غرماء!